الأربعاء، 5 مايو 2010

فتوى عن سؤال من أحد المحامين في قضية مالية

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله والصلاة والسلام على سيِّدنا محمد رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

وبعد:
فقد وردني سؤال من صديق يعمل محامياً ووكيلاً لرجل يملك أرضاً ادعى أن إحدى الشركات المساهمة الكبرى اغتصبتها وبنت عليها مشروعاً استثمارياً ، وبعد ذلك بمدة تصالح الطرفان على أن يقبل مالكُ الأرض بثمنها ، لتصبح ملكاً للشركة ، إلا أن رئيس الشركة ماطل عدة سنوات في إفراغ صكوك الأرض باسم الشركة وما يستلزمه ذلك من انتقال قيمة الأرض من أسهم الشركة لملك البائع منذ يوم الصلح ، فأدى المطلُ المذكور لتأخير حيازة البائع لتلك الأسهم ، وبالتالي لفوات ربح تلك السنوات على بائع الأرض.
فطلب مني الصديق المحامي بحثَ ما يمكن لموكله مطالبةُ الشركة به ، سواء من حيث التعويضُ عن ضرر المطل ، أو من حيث ملكية أرباح تلك الأسهم المعطّلة عن مالكها ، طالباً التركيز على ما يقتضيه المذهب الحنبلي بالخصوص .
فأجبت مستعيناً بالله :
الجواب عن السؤال الأول وهو: هل يستحق موكلكم تعويضاً عن الضرر الذي لحقه من مطل الشركة له والمتمثل في فوات الربح في فترة المطل أم لا ؟

أقول:
لم أجد فيها نصّاً للمتقدمين، وأما المعاصرون فاختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول:
أنه لا حق لصاحب الدين في التعويض المذكور.
وبهذا أفتت المجامع الفقهية، وعدد من العلماء؛ فقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي ـ التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته السادسة ـ المتعلق ببيع التقسيط ما يلي: " ثالثاً: إذا تأخر المشتري المدينُ في دفع الأقساط عن الموعد المحدَّد فلا يجوز إلزامُه أيَّ زيادة على الدَّين بشرط سابق أو بدون شرط؛ لأن ذلك رباً محرَّم( ).
وجاء في المعايير الشرعية لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية: "لا يجوز اشتراط التعويض الماليِّ ... سواءٌ كان التعويض عن الكسب الفائت (الفرصة الضائعة) أم عن تغيَُر قيمة العملة".
وفيه أيضاً:"لا تجوز المطالبة القضائية للمدين المماطل بالتعويض الماليِّ نقداً أو عيناً عن تأخير الدَّين( ).
وجاء في مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد: "المادة (1397): لا يضمن الغاصبُ ما فوَّته على المالك من الربح بحبسه مالَ التجارة".
وممن صرَّح بتحريم التعويض المذكور: الأستاذ الدكتور أحمد فهمي أبو سنة في مجلة الأزهر ص (754) ج 7، السنة 63 رجب 1411هـ، والدكتور نزيه حماد في المؤيدات الشرعية لحمل المدين المماطل على الوفاء (ص 295) والدكتور علي السالوس كما في مجلة المجمع الفقهي، العدد السادس (1/ 264) والدكتور تقي العثماني في كتابه بحوث في قضايا فقهية معاصرة (ص 40) والدكتور محمد القري كما في مجلة المجمع الفقهي، العدد الثامن (3/679).

وهذا القول مؤيَّدٌ بالكتاب والسنة والإجماع السكوتيِّ وسَدِّ الذرائع وأقوال أهل العلم المتقدمين في أمثال هذه القضية:

1 ـ أما الكتاب فقوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون).
وجه الدلالة:
أنَّ الآية دلت على أن الدائنَ لا يستحق إلا رأسَ ماله، وهذا العموم يشمل المدينَ الموسرَ والمعسر والماطل.
فالماطل داخلٌ في هذا العموم من جهة أنه يجب عليه وفاءُ رأس المال فقط دون رباً، ولم تستثن الآية من ذلك إلا المعسرَ العاجزَ فيُنظر إلى ميسرته.

2 ـ وأما السنة فلحديث أبي هريرة قال سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:" مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ ، فَهْوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ".( )
قال ابن حجر:"واستدِل به على فسخ البيع إذا امتنع المشتري من أداء الثمن مع قدرته بمطل أو هرب؛ قياساً على الفلس بجامع تعذُّر الوصول إليه حالاً، والأصحُّ من قولي العلماء أنه لا يفسخ، واستدِل به على أن الرجوع إنما يقع في عين المتاع دون زوائده المنفصلة؛ لأنها حدثت على ملك المشتري وليست بمتاع البائع"( ).

3 ـ وأما الإجماع السكوتيُّ فإن مسألة مَطل الأغنياء في الديون ليست مسألة نازلة تحتاج إلى اجتهاد جديد، بل هي من المسائل القديمة والواقعة في كلِّ عصر، ويعاني منها الناس في سائر الأزمان، وباستقراء ما ذكره العلماء السابقون في عقوبة المدين الماطل بغير حق لم نجد عن أحد منهم أنه قضى أو أفتى بالتعويض الماليِّ عن المطل، مع أن فكرة تعويض الدائن عن الأرباح الفائتة والمتوقعة مقابل ماله المحبوس قريبة إلى أذهانـهم - لو كانت جائزة عندهم - إذ هي جزاء من جنس العمل، ومعاملة بنقيض القصد، وقد نصُّوا على عدَّة عقوبات يستحقها الماطل الغنيُّ، كالسجن، والضرب، والمنع من فضول المباحات، وبيع ماله ونحو ذلك، ولم يذكروا التعويض الماليَّ، فدل على أنه متقررٌ عندهم أن التعويضَ الماليَّ للدائن بسبب المطل داخلٌ في الربا المحرم.

4 ـ وأما سدُّ الذرائع فأصلٌ من أصول المالكية والحنابلة أخذاً من قوله تعالى: (ولا تسبُّوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عَدوا بغير علم) وما في معناها من النصوص الدالة على منع ما لا ضررَ فيه إذا أدَّى إلى ما فيه ضرر.
ووجه دلالة سدِّ الذرائع على موضوعنا أن التعويض المذكورَ إذا عُمل به صار عرفاً، ولو صار عرفاً لصار شرطاً ـ لأن المعاملات يعتبر فيها العرفُ كالشرط ـ ولو صار شرطاً لصار عينَ ربا الجاهلية المحرَّمَ، كما تقدَّم، وهذا ما حصل بالفعل في المجتمعات التي تتعامل بالربا.

5 ـ وأما أقوالُ أهل العلم المتقدمين فقد سبق أنَّه لا نصَّ لهم في المسألة بعينها، وأقربُ ما ذكروه لها مسائلُ الغصب والسرقة، وفيما يلي بعضُ نصوصهم:
قال ابن المنذر: "وأجمعوا أن السارق إذا قطع ووُجد المتاعُ بعينه، أن المتاع يردُّ على المسروق منه".( )
وقال ابنُ قدامة متحدِّثاً عن المال المغصوب: "وما تتماثل أجزاؤه وتتقارب صفاته كالدراهم والدنانير... ضُمن بمثله بغير خلاف"( ).
وقال في شأن السرقة: "لا يختلف أهلُ العلم في وجوب ردِّ العين المسروقة على مالكها إذا كانت باقية، فأما إن كانت تالفة، فعلى السارق ردُّ قيمتها، أو مثلِها إن كانت مثلية، قطع أو لم يقطع، موسراً كان أو معسراً"( ).

القول الثاني:
أن لصاحب الدين الحقَّ في التعويض.
وممن أخذ بهذا الرأي هيئة الرقابة والفتوى بدار المال الإسلامي.
وممن قال به: العلامة الشيخ مصطفى الزرقا والشيخ عبد الله بن منيع( )، والدكتور عبد الله المصلح والدكتور صلاح الصاوي( ).

واستدلوا بالسنة والقياس:

1 ـ أما السنة فما ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أن مَطل الغنيِّ ظلم وأنه يُحلُّ عرضَه وعقوبته( ).
قالوا: فما دام الحديث نص على أن مطل الغنيِّ ظلم ولم يَرد إجماع يمنع من العقوبة بالمال؛ فكان جزاء وفاقاً.

2 ـ وأما القياس فقاسوه على الغصب ـ بل المطلُ غصبٌ ـ لما يترتب عليه من حرمان الدائن من الانتفاع بماله المحبوس ظلماً عند المدين مع استثماره، وقد نصَّ العلماء على أن الغاصبَ ضامنٌ لما غصبه، فيقاس عليه الماطل في ضمان ما فات من منافع المال نتيجة مطله( ).

الترجيح:
يظهر من أدلة الفريقين ترجيحُ القول الأول، وهو عدم أحقية صاحب الدين الممطول ظلماً بتعويض عن المطل؛ لقوة أدلته، والله أعلم.

السؤال الثاني: من يملك الربحَ الذي نتج عن استثمار المبلغ المستحَقِّ لموكلكم والذي مطلته الشركة بتسليمه واستثمرته مدَّة المطل ؟
والجواب أن الأرباح من حق مالك الدين ـ موكلكم ـ وعلى ذلك نصوص أئمة الحنابلة قاطبة:
1 ـ قال ابنُ قدامة في المقنع( ): "وإن اتَّجر [ يعني الغاصبَ ] بالدراهم فالربحُ لمالكها".
2 ـ وقال في المغني( ): "وإن غصب أثماناً فاتجر بها، أو عُروضاً فباعها واتجر بثمنها فقال أصحابنا: الربح للمالك والسِّلعُ المشتراة له ... وإن حصل خسران فهو على الغاصب لأنه نقص حصل في المغصوب، وإن دفع المالَ إلى من يضارب به فالحكم في الربح على ما ذكرناه، وليس على المالك من أجر العامل شيء؛ لأنه لم يأذن له في العمل في ماله".
3 ـ وقال المرداويُّ في الإنصاف( ) تعليقاً على قول صاحب المقنع: (وإن اتَّجر بالدراهم فالربحُ لمالكها): "يعني إذا اتَّجر بعين المال أو بثمن الأعيان المغصوبة فالمالُ وربحُه لمالكها، وهذا الصحيحُ من المذهب، ونَص عليه [ يعني أحمد ] ونقله الجماعة وعليه الأصحاب".
4 ـ وقال صاحبُ كشاف القناع( ): "وإن اتجر الغاصبُ بعين المال بأن كان دراهمَ أو دنانيرَ فاتجر بها، أو اتجر بثمن عين المغصوب ـ بأن غصب عبدا فباعه واتجر بثمنه ـ وحصل ربحٌ فالربح والسلعُ المشتراة للمالك، نقله الجماعة" ثم قال بعد كلام في المسألة: "لكن نصوص أحمد متفقة على أن الربحَ للمالك".
5 ـ وقال مجدُ الدين عبد السلام ابن تيمية في المحرر( ): "وإذا غصب دراهمَ فاتجر بها فربحه للمالك".
6 ـ وفي مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد: "المادة 1396 ربح التجارة في المغصوب من نمائه، فلو اتجر الغاصب بعين المغصوب أو عين ثمنه ... فالربح وما اشتراه للمالك ولا شيء للغاصب".
7 ـ وفي كتاب الأسئلة والأجوبة الفقهية لعبد العزيز السلمان( ): "وإن اتجر غاصبٌ بعين مغصوب ـ بأن كان دنانيرَ أو دراهم فاتجر بها ـ أو اتجر بعين ثمنه بأن غصب عبداً فباعه واتجر بثمنه وظهر ربح وهو باق فالربح وما اشتراه الغاصب من السلع لمالك المغصوب؛ لخبر عروة بن الجعد( ) ..
وروى الأثرم عن رباح بن عُبيد أن رجلاً دفع إلى رجل دراهمَ ليبلغها أهله فاشترى بها ناقة فباعها فسئل ابنُ عمر عن ذلك فقال: ادفع إليه دراهمه بنِتاجها.
لأنه نماءُ ملكه، فكان تابعاً لأصله كالسِّمَن، وحيث تعين جعلُ الربح للغاصب أو للمغصوب منه فجعله للمالك أولى؛ لأنه في مقابلة ماله الذي فاته بمنعه".

وأختم بملاحظتين متصلتين بالموضوع:

الأولى: لو فرض أن سعرَ السهم قد نزل في فترة المطل فهل يتحمل موكلكم خسارة في ذلك ؟

والجواب: لا؛ لأن الثمنَ المتفقَ عليه هو بالعملة النقدية وليس بالأسهم، فالأسهم في هذه الحالة سلعة منفصلة عن الثمن والمثمَن، فلا يؤثر ارتفاعها ولا نزولها على الصفقة، لا سلباً ولا إيجاباً.

الثانية: لموكلكم الحقُّ في مطالبة وليِّ الأمر بمعاقبة رئيس الشركة على ظلمه وهو مطلُه، وحينئذ يقدِّرها الحاكم، إلا أنَّ تلك العقوبة لو قدِّرت غرامة مالية فإنَّها لبيت المال لا للمدَّعي، لكن لو أراد رئيسُ الشركة أن يصالح موكلكم بمال لكي يرجعَ عن المطالبة بالعقوبة المذكورة فحينئذٍ يطيبُ المالُ المصالَحُ عليه، والله أعلم.
وصلى الله على سيِّدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

0 التعليقات:

:)) ;)) ;;) :D ;) :p :(( :) :( :X =(( :-o :-/ :-* :| 8-} :)] ~x( :-t b-( :-L x( =))

إرسال تعليق