بسم الله الرحمن الرحيم
منذ نصف قرن من الزمان نالت الجمهورية الإسلامية الموريتانية استقلالها عن الاستعمار الفرنسي الذي تركها كما دخلها صحراء جرداء (بادية) لا بناء عليها ولا مؤسسة فيها.
واستلم نفر قليل من أبناء الوطن إدارة (الدولة) مستعينين بمن استطاعوا من أصدقائهم في الخارج ، وكانت تحديات بناء دولة ـ على كافة الأصعدة ـ كبيرة وخطيرة.
وبدأ النفر القليل العدد الضئيل الخبرة المفتقر إلى الأنصار المخلصين والأكفاء المدربين تأسيس (دولة مستقلة) لكن هل يستطيع فعلا بهذه الإمكانات أن ينجح في ذلك ؟
في البداية ركز فريق الاستقلال على الناحية الدبلوماسية ونجح فيها إلى حد كبير يتناسب مع ما تسمح به ظروفه المتواضعة ، إن لم يفُقه.
واستمرت فترة التأسيس هذه (15) سنة تقريبا تم خلالها بعض ما سمحت به الظروف الصعبة ، والخبرة القليلة ، إلى أن انزلقت القيادة في الحرب ، واضطر الجيش (الوطني) حينها لإزاحة السلطة بدواع وطنية واضحة ومفهومة سنة 1978م.
لكن هذا الجيش الذي بدأ انقلابه الأول وطنيا ومنقذا ما إن تذوق طعم السلطة في بلد لم يتأسس بعد حتى صدق نفسه أنه استلم (دولة) وبدأ الصراع على السلطة يعمي ويصم بعض قادته ؛ رغبة فيما يناله القادة من مكاسب شخصية ضيقة.
وفي العشرين سنة الأخيرة ـ بالذات ـ تطور أسلوب العسكر في الإدارة ليشركوا أكبر قدر من المدنيين في (اغتنام) الدولة واستغلالها بطريقة فيها درجة كبيرة من (العدل) بين المناطق والقبائل والمجموعات.
وفي أثناء تينك الحقبتين نسي الجميع أنهم لما يبنوا دولة ، وأنه لم يحن بعد الصراع على المكاسب ، وأن عليهم بمنطق الاستراتيجية والمصلحية ـ فضلا عن منطق الوطنية ـ أن يكملوا بناء الدولة أولاً لكي يجدوا ما يتصارعون عليه.
ومع أنه يتوفر الآن في الوطن من الكفاءات والخبرات والتخصصات ما لم يوجد عُشُرُه في الفترات السابقة إلا أن كثيرين من السياسيين الحاليين ـ وخاصة ممن شاركوا في إدارة العشرين سنة الأخيرة ـ ما زالوا ينتهجون الأسلوب نفسه ، وبالدوافع نفسها ، وبالمنطق نفسه.
وقد دعاني هذا الواقع المرير ودعا غيري من أبناء الوطن للتأمل والتفكير في البحث عن أساليب وآليات بناء (الدولة) وقراءة تجارب دول وصلت إلى درجة من النجاح ، وربما كان عمرها أقل من عمر بلادنا ، وربما كانت إمكانات بعضها أقل من إمكاناتنا ، مثل سنغافورة وماليزيا ، وغيرهما ، فرأيت أن أضع هذه الأفكار أمام الرأي العام الموريتاني عامة ، والمثقفين خاصة ، لعلها تثير الباحثين والمهتمين إلى طرق هذه القضية والتأمل فيها :
1 ـ الاستقرار السياسي:
هذا أهم سبب للتنمية ، فما لم تستقر الأوضاع السياسية بالكامل فسيستمر كل شيء في انهيار : النفعيون طامعون ، المجتمع متمايز ، الجيران متربصون ، العالم غير واثق ، المستثمر خائف ...
2 ـ إصلاح القضاء واستقلاله:
ففرق بين (قضاء السلطة) الذي تسير عليه البلاد عمليا منذ فترة في شتى مؤسساتنا العدلية بدءا من المجلس الدستوري والمحكمة العليا ، وانتهاء بمحاكم المقاطعات التي كثيرا ما يحاول صغار موظفي الدولة التدخل في عملها ، ويجدون ـ في كثير من الأحيان ـ من ضعاف القضاة من يستجيب لهم ؛ رغبا أو رهبا ، وبين (سلطة القضاء) التي تحمي القانون وتدافع عنه ، وتجادل باسمه ، وترفع الرأي القانوني والدستوري في وجه كل مسؤول ، وفوق كل اعتبار.
وفي ظل غياب سلطة القضاء فلا ثقة في القانون ولا مطمع في بناء الدولة.
3 ـ تعزيز الدبلوماسية:
بدءا من توطيد العلاقات الدبلوماسية بالدول الأخرى وما يقتضيه ذلك من احترام متبادل ، وجلب للقروض والاستثمارات ، وصولا إلى التأثير في المجتمع الدولي ، والنفوذ فيه ، وهذا من أهم مقومات الدول ، وكم من الدول الصغيرة جدا أصبح لها تأثير في محيطها ، بل وفي العالم عبر الإصلاح بين الفرقاء ، والتدخل الإيجابي في الأمور القريبة والبعيدة جغرافيا عنها ، وبهذه الدبلوماسية الجيدة ـ مع ما سبق من قواعد ـ تستجلب الأموال ، وتحمى البلاد ، وتحترم الدولة ، ويُهاب القانون ، وتتعزز المؤسسية.
4 ـ احترام المؤسسية:
فمن أكبر مشكلاتنا في هذا الوطن نسيان المؤسسية أيا كان نوعها أو حجمها ، بدءا من مؤسسة (الدولة) و(الوزارة) و(الإدارة) و(الشركة) و...و... فإذا حصل تدمير لمؤسسة ، أو نهب لأخرى ، أو انتهاك لحرمة ثالثة بدأ النقاش : فلان فيه ، وما لكم ضد فلان ؟، ولماذا تتكلمون عن فلان؟؟ ، ويقول الفريق الآخر: أنتم إنما تريدون فلانا ، ولا ترغبون فلانا ، وفلان أحسن من فلان ...وهكذا.
وقد يتذرع أحدهم بما يشبه المؤسسية من قبلية وجهوية وعرقية ، وهذه ـ وإن أشبهت المؤسسات ـ فهي في الحقيقة نواقض المؤسسية الحضرية ومعارضاتها.
5 ـ تشجيع الاستثمار الحر وضبطه:
وأكثر الناس يعرف ويسمع الحديث الضافي والمستفيض عن هذه القضية ، وخاصة في شقها الأول ، أي فيما يتعلق بتشجيع الاستثمار ، وهو يعني تخفيف القيود القانونية والجمركية عليه ، ولكنه يجب أن يضبط بضوابط تجعله خادما للبلد ورافدا للتنمية ، كأن تفرض نسبة مئوية مثلا للعمالة الوطنية ، أو نسبة للتصدير الخارجي ، أو مواصفات ومقاييس جودة التصنيع أو غير ذلك ، وبخصوص بلادنا فإن مجالات الاستثمار المطلوبة يجب أن تشمل سبع مجالات هي :
• الصحة.
• الزراعة والرعي وحفر الآبار الارتوازية (صونداجات).
• التعليم والتنمية البشرية.
• البنية التحتية والإعمار.
• المعادن والصيد.
• الصناعة بأنواعها.
• الإعلام وخاصة التلفزيوني والألكتروني.
6 ـ توزيع مشروعات التنمية بعدالة على المناطق:
فظاهرة الهروب إلى العاصمة التي شهدتها البلاد في العشرين سنة الأخيرة سببها نقص الخدمات في الأقاليم ، وصعوبة البقاء فيها ، فلا صحة ولا تعليم ، ولا وظائف ...إلخ ، ومعلوم أن الإنسان بطبعه يحب وطنه ، ويكره الاغتراب عنه لو وجد للمُقام به سبيلا ، فلا بد من توزيع عادل يعيد التوازن الديمغرافي ، ويوطن الناس في أماكنهم.
7 ـ رعاية المواطن وتنميته:
فعلى الدولة أن تقوم بدور (الوصاية الإيجابية) على المواطن من نوع ما فرضته (سنغافورة) مثلا من اقتطاع نسبة من الأجور لشراء منزل لكل موظف ، ومن تلك الوصاية ـ إن صح التعبير ـ وضع مؤسسات التعليم بمستوياتها المختلفة في المناطق ، وجعل التعليم إجباريا إلى درجة محددة ، وجعل محو الأمية مسألة استراتيجية حقيقة ، وليست دعائية وتمثيلية كما عهدناها.
وأخيرا هذه بعض الأفكار أردت نشرها لفتاً لأنظار الجميع إلى الأولويات الحقيقية للبلاد ، وأن (معركة المكاسب) ليست في موضعها ، ولم يحن بعد وقتها.
وهذه الأفكار الإصلاحية فيها ولا بد بعض ما يصلح للتنفيذ ، وبعض ما لا يختلف عليه فرقاء السياسة.
فاللهم احفظ بلادنا وأمتنا ، وول علينا خيارنا ، وقنا شر شرارنا.
1 التعليقات:
الأستاذ مختار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تهانينا لكم بمناسبة انطلاق مدونتكم الميمونة
نسأل الله عزوجل أن تكون أداة في اصلاح هذه الـأمة
وتقبل تحياتي
محبم عبد الله بن الداسي
إرسال تعليق