الأربعاء، 28 أبريل 2010

فتوى في توجه الخطيب بوجهه تناوُباً إلى المستمعين في جوانب المسجد

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ، وبعد :
فقد وردَ سؤال عن توجُّهِ الخطيب بوجهه تناوُباً بين المستمعين في جوانب المسجد ، خاصةً أن بعض العلماء أنكرَه وشددَ فيه ، فأقول مستعيناً بالله :
لم أجد ـ فيما رجعت إليه من المصادر ـ بحثاً مفصلاً في هذه المسألة ، وسأورد ما اطلعت عليه فيها ـ بإيجاز ـ من خلال المطالب التالية :
1. أقوال أهل العلم في المسألة .
2. الأدلة التي استدل بها من لا يرى التوجه .
3. الأجوبة على ما استدلوا به وتوجيه العبارات المجملة .
4. الاستدلال للتوجه بالمعقول .
5. الخلاصة .

المطلب الأول : أقوال أهل العلم في المسألة :
1. نقل الإمام النوويُّ عن أبي حنيفة : أن الخطيبَ يلتفت يمينا وشمالا في بعض الخطبة كما في الأذان ، وعقّب عليه بقوله : وهذا غريب لا أصل له [المجموع 4 / 528] .
2. وقال الإمام الشافعي : "ويُقلُّ التلفتَ ويُقبلُ بوجهه قصدَ وجهه ، ولا أحب أن يلتفت يميناً ولا شمالاً ليسمع الناس خطبته ؛ لأنه إن كان لا يسمع أحد الشقين إذا قصد بوجهه تلقاءه فهو لا يلتفت ناحيةً يسمع أهلها إلا خفي كلامُه على الناحية التي تخالفها ، مع سوء الأدب من التلفت" [الأم 1/230] .
3. وقال الإمام النووي : "ولا يلتفت يمينا وشمالا في شيء منها" يعني الخطبة [منهاج الطالبين 1 / 63] .
وقال في المجموع: "يسن أن يقبل الخطيب على القوم في جميع خطبتيه ولا يلتفت في شي منهما قال صاحب الحاوي وغيره : ولا يفعل ما يفعله بعض الخطباء في هذه الأزمان من الالتفات يمينا وشمالا في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيرها ، فإنه باطل لا أصل له ، واتفق العلماء على كراهة هذا الالتفات ، وهو معدود من البدع المنكرة ، وقد قال الشيخ أبو حامد في تعليقه يستحب أن يقصد قصد وجهه ولا يلتفت في شيء من خطبته عندنا" [المجموع 4 / 528] .
وقال قبل هذا الموضع : "قال القاضي أبو الطيب وغيره فإن قيل : استحببتم التفات المؤذن في الحيعلتين وكرهتم التفات الخطيب في شيء من الخطبة ، فما الفرق ؟ قلنا : الخطب واعظ للحاضرين فالأدب أن لا يعرض عنهم ، بخلاف المؤذن فإنه داع للغائبين ، فإذا التفت كان أبلغَ في دعائهم وإعلامهم ، وليس فيه ترك أدب" [المجموع 3 / 106] .
4. وقال ابن قدامة : "ومن سنن الخطبة أن يقصد الخطيب تلقاء وجهه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ، ولأنه أبلغ في سماع الناس ، وأعدل بينهم ، فإنه لو التفت إلى أحد جانبيه لأعرض عن الجانب الآخر" [المغني 2 / 154] وتبعه عدد من مؤلفي الحنابلة .

المطلب الثاني : الأدلة التي يستدل بها من لا يرى التوجه :
• استدل أحد العلماء بما في الصحيحين من حديث أنس في قصة الاستسقاء ، بأن السائل قدم من جهة خَوْخة أبي بكر ـ في غربي المسجد على يسار الخطيب ـ وأنه مشى من مكانه حتى وقف أمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : ولو كان صلى الله عليه وآله وسلم يتلفت في خطبته لما احتاج الأعرابي أن يتكلف الانتقال من مكانه حتى يواجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم [شرح الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي على عمدة الأحكام] .
• وبما في صحيح مسلم في صفة صلاة العيدين عن أبى سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر فيبدأ بالصلاة فإذا صلى صلاته وسلم قام فأقبل على الناس وهم جلوس في مصلاهم ..الحديث" .
• واستدلوا بحديث مذكور في كتب الفروع الشافعية عن سمرة بن جندب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان إذا خطبنا استقبلناه بوجوهنا واستقبلنا بوجهه ، وكان لا يلتفت" قال الحافظ ابنُ حجر : هذا الحديث كأنه [يعني الرافعي] تبع في إيراده صاحب المهذب .. ولم يعزه المنذري الحافظ في تخريجه ولا النووي في شرحه ، وإنما بيضا له بياضا ، وأنكر غيرهما على الشيخ إيراده ، وقد رأيت ذلك في عدة أحاديث إلا قوله : «لا يلتفت» [البدر المنير 4 / 631] ثم أورد حديثا في توجه المستمعين قِبَلَ الخطيب ، وهي مسألة أخرى حكى بعضهم الإجماع عليها ، ولا علاقة لها بمسألتنا ، وإن أدرجها بعضهم فيها سهواً.

المطلب الثالث : الأجوبة على ما استدلوا به :
• قول الإمام النووي في تعليقه على المنقول عن أبي حنيفة من الالتفات في بعض الخطبة : بأن هذا لا أصل له ، وكذا قوله في المجموع نقلاً عن صاحب الحاوي من إنكاره الالتفات عند الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعدِّه ـ وعدِّ غيره ـ ذلك من البدع المنكرة ، واضح منه إنكارُهم قصد هذا التخصيص لا مطلق الالتفات ، وحيث لم يرد دليل على قصد هذا التخصيص فلا غرابة في عدِّه من البدع .
• من أصرح العبارات في نفي التوجة قول الإمام الشافعي المتقدم : "ولا أحب أن يلتفت يميناً ولا شمالاً ليسمع الناس خطبته ؛ لأنه إن كان لا يسمع أحد الشقين إذا قصد بوجهه تلقاءه فهو لا يلتفت ناحيةً يسمع أهلها إلا خفي كلامُه على الناحية التي تخالفها ، مع سوء الأدب من التلفت" أهـ ويجاب عنه بأن الإمام ـ رضي الله عنه ـ لم يذكر فيها دليلاً نقليا ، وإنما بناها على اجتهاد معلل بعلتين :
أ ـ أنه إذا توجه لإحدى الجهتين خفي كلامه على الأخرى ، وبالتالي فالتوجه للأمام أعدل في وصول الصوت للجهتين ، وهذه العلة منتفية الآن بوجود مكبر الصوت الموصل إياه لجميع الجهات ، بل لمن هو خارج المسجد ، فلينتف المعلول بانتفائها .
ب ـ أن في التوجه قلة أدب ، وهو إما أن يعني أن في كثرة الالتفات يمينا وشمالاً نقصاً في الهيبة ، ونزولاً عن رتبة الوقار ، ولا شك في ذلك إن كان بتلك المثابة ، وإما أن يعني ـ رحمه الله ـ ما يؤذن به التوجه من الإعراض عن الملتفتِ عنهم ، وهنا يردُ عليه أن هذا التعليل يستلزم توزيع التوجه بعدل بين المستمعين ؛ لئلا يؤذن بالإعراض عمن في الطرفين .
• قول الإمام ابن قدامة : "ومن سنن الخطبة أن يقصد الخطيب تلقاء وجهه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك" لم أجد ما يدل عليه من السنة ، وكل ما وجدته هو إما توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الناس ـ هكذا بإجمال ـ أو توجه الناس إليه ، ولا علاقة لكلتيهما بمسألتنا ؛ فإن توجهه للناس لا يعني إلا استقباله إياهم عكس اتجاه القبلة ، بل لو حُمل إطلاق (الناس) على جميعهم في جميع جوانب المسجد لكان دليلاً على سنية التوجه للجميع ، وبهذا يجاب عن الاستدلال بحديث أبي سعيدٍ الخُدْري السابق .
• استدلال العلامة الشنقيطي بقصة الاستسقاء وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان يتلفت في خطبته لما احتاج الأعرابي أن يتكلف الانتقال من مكانه حتى يواجهه ، يجاب عنه بأن ظاهر الحديث يدل على أن هدف الانتقال هو القرب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإسماعه ، فلو تكلم الأعرابي وهو في مكانه لربما لم يسمعه صلى الله عليه وآله وسلم ، وليس بالضرورة من أجل أن يراه .
• أما حديث سمرة ابن جندب فلم يجده الحفاظ الأجلاء : المنذري والنووي وابن حجر ، بل وهذه كتب السنة والتاريخ كثير منها مطبوع ، وفي أجهزة الحاسوب ، وتتوفر فيها آلية البحث فأين هو ؟ ولا يَرِدُ على هذا إيرادُ أئمة الفقهاء إياه واستدلالهم به ؛ لأنهم كانوا يتركون التخريج والتدقيق الحديثي لأهله ، وبعض الفقهاء لم يكن له تلك العناية بالحديث بالقدر الذي لأئمة الحديث ، رضي الله عن الجميع .

المطلب الرابع : الاستدلال للتوجه بالمعقول :
• مما علل به نفاة التوجه ما يقتضيه من الانصراف عن بعض المستمعين ، وبهذا يترجح التوجه لئلا يكون عدمه انصرافا عن بعضهم ، بل عن أكثرهم .
• إذا كانت الخطبة رسالة إلى المستمعين فعلى مرسِلِها إشعارُ الجميع بها ، وبذل الجهد في إيصالها ، وهذا لا يتحقق بالإعراض عن الجهتين والتركيز على الوسط والأمام.
• لنفرض أن أحدنا طالب في فصل دراسي فكيف يكون شعوره ـ بل كيف يكون مستواه الدراسي ـ إذا كان المدرس لا يلتفت إلى الجهة التي هو بها .
• (الالتفات) قد يعني التوجه إلى اليمين المسامت واليسار المسامت بحيث ينحرف الخطيب انحرافا كاملا ويكون منكبه تجاه الجمهور ، وهذا لا يدعي أحد مطلوبيته ، بل هو مناف للأدب ، وربما كان منافيا لسنية استقبال الجمهور الثابتة عنه صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنما يقصد القائلون بالتوجه أن يوزع الخطيب نظراته على الجمهور بطريقة تلقائية هادئة ، مع بقاء وِقفته متجهةً إلى الأمام .
• إن مقتضى العدل المأمور به في الشرع يقتضي هذا التوجه ، والخطيب خيرُ من يؤمر بالعدل.

خلاصة الموضوع :
• لم يثبت دليل صريح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على توزيع الخطيب نظراته بعدالة على جوانب المسجد المتعددة ، ولا على نفي هذا التوزيع ، فالمسألة اجتهادية بحتة ، ولو كان فيها دليل في أي من الاتجاهين لما وسع أحداً مخالفتُه .
• نص بعضُ أئمتنا على كراهة هذا التوجه ـ وأصرحهم عبارةً الإمامُ الشافعي وابنُ قدامة ـ معللين ذلك بأن التوجه إلى أحد الجانبين يُخفي الحديث عمن في الجانب الآخر ، وهذه العلة منتفية بوجود مكبرات الصوت .
• لو استُدلَّ بإطلاق الأحاديث التي فيها توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم للجمهور في خطبه ـ بدون تخصيص الأمام والوسط ـ على مشروعية هذا التوجه واستحبابه لَما كان بعيداً .
• لا يعني التوجه ـ عند من يقول به ـ المبالغةَ في الالتفات ، ولا كثرة الحركات ؛ مما يفقد الهيبة وينزع الوقار ، ويشوش على الناس ، وإنما يعني الحكمة في التوجه بعدالة وخفة إلى جوانب المسجد المتعددة ، مع بقاء الجسم مستدبر القبلة متجهاً للوسط ، ليوصل رسالته ، ويعدل بين مستمعيه ، ويقيس بنظراته ردودَ أفعال جمهوره النفسية مما يبدو على وجوههم ، فيتعامل وَفقها في خطبه القادمة وغيرها ، وهذا هو العدل والحكمة .
والله أعلم وأحكم ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

0 التعليقات:

:)) ;)) ;;) :D ;) :p :(( :) :( :X =(( :-o :-/ :-* :| 8-} :)] ~x( :-t b-( :-L x( =))

إرسال تعليق